يباغته السؤال لمرة أخرى, ينظر الى ساعته, يأنس اليها, الساعة التاسعة صباحا, يتذكر لمرة أخرى بأنه قد قام بضبطها هناك, في مطار صنعاء، كان الوقت حينها التاسعة صباحا, كاللحظة تماما.
لايمكن نسيان مثل تلك اللحظات الفاصلة, فكر حينها بأن كل مايربطه بالوطن هي لحظات قليلة, تنتهي تحت عجلات الطائرة, بعدها يصبح كل شي في مسمى الذكريات, قد يموت هناك, قد لايأتي ثانية, قد يرجع يوما محملا بالثروة والنجاح, عليه أن يعيش هذه اللحظات بطريقة مختلفة, أن يفتح لها كل حواسه, لا كما عاش حياته السابقة, فكر في أمه, في أبيه, في أخوته, أولئك الذين وعدهم بالكثير, لم يدر بخلده يوما أن يمر بتلك اللحظات العصيبة, هو الذي ينتشي ويتغنى بالسفر, فكر بأن عليه أن يكون مقداما وألا ينظر الى الخلف, سيتغير كل شي قريبا, وتبتسم الدنيا في وجهه, كل ما هنالك هي مجرد لحظات وخطوات قليلة, وما أن تنتهي اخر خطوة على سلم الطائرة حتى تبدأ أولى خطواته في مشوار الألف ميل, ابتسم لتلك العبارة, أعجبته كثيرا, دوت في أعماقه, تهلل وجهه, وانتهى اليه عبر الميكرفون الصوت الأنثوي ينادي, على السادة المغادرين على الرحلة رقم000 المتجهة الى الكويت التوجه الى بوابة رقم000 , وأنحشر وسط الطابور المتجه الى بوابة العبور, مخلفا وراءه صخب الاحتمالات وفوضى الأسئلة.
يباغته السؤال لمرة أخرى, ينظر في ساعته, التاسعة صباحا, يشعر ببطء الوقت, ساعة ويصعد عبر تلك الدرج الى الدور السادس, سيعتمد طلبه بلا شك, قالوا له بأن نسبة اعتماده للعمل تسعة وتسعون في المئة, وأن المقابلة لا تعدو على أن تكون جلسة للتعارف, والاتفاق النهائي على الحقوق والراتب الذي حدد سلفا, لم ينم ليلتها , أرقاما جديدة دخلت عالمه, أمسى يتقلب على فراشه كمقرور.
يتحسس فنجانه بحركة لا ارادية, أدرك بأنه أتى على محتواه من الشاي, يطلب فنجانا اخر, يتأمل الوجوه العابرة, الحركة النشطة في المكان تصل حد الازدحام الخانق, أبواق السيارت, البشر في حركتهم اليومية الدءوبة, لهاثهم, الشارع المكتظ, واجهة المحلات, كل ذلك يتجاذب أفكاره, يبهره, هذه المرقاب قلب الكويت النابض, يتفكر في معالمها بتمعن, يأخذه تفكيره فجأة الى أمه, تلك المرأة التي لا تعرف في الدنيا الا جلب الحطب, وبهائمها, وصياح أخوته, مسكينة تلك المرأة, ينتبه الى نفسه, ينظر الى ساعته, يتململ, يطلب فنجانا أخر من الشاي, يشعر بوطأة الوقت عليه, يقول في نفسه بأن أصعب لحظات العمر هي لحظات الأنتظار, هاهو الان يعيشها, الوقت لا يمر, وحرارة الشمس تبلغ أوجها, تلفحه, يتحاشى اشعتها, ينضوي في ما تبقى من ضل على كرسي أخر, يتفرس في وجه العامل الاسيوي وهو يذهب يمنة ويسرة, يفكر بغرابة الحياة ومفارقاتها, ينتبه لنفسه مرة أخرى قبل أن يأخذه تفكيره بعيدا, ينظر لساعته بعجل, لم تتحرك, التاسعة صباحا, يطمئن للوقت, عليه أن يشغل وقته بشي حتى لا يتمكن منه الضجر, فكر بعدة أشياء ولكنه عدل, ساعة واحدة فقط, لا يفصله عن مدخل العمارة سوى أقدام قليلة, تدغدغه الأماني والأحلام مرة ثانية, ويجتاحه شعور بالسعادة, خطوة أخرى ويحرز الهدف الفاصل في مرمى الحياة, لم يكن يعلم بأنه بهذا القدر من المهارة, وأن الحياة انحازت اليه اخيرا, أبتسم بارتياح, تحسس شفتيه بعد أن أفرغ ما تبقى من محتوى فنجانه الخامس في فمه, اعتدل في جلسته, وبداء يتطلع الى الشارع المفتوح أمامه, لحظ بأن الزحمة بدأت تخف, نظر الى مدخل العمارة, رأى أناس يخرجون مهندمين ببدلاتهم الرسمية, يمرقون من أمامه الى مكان لا يعلمه, تعاقب خروجهم بأنتظام, تململ في جلسته, نظر مرة أخرى في الأرجاء, الحركة خفت تماما, والأجواء تغيرت, نهض, أتجه صوب المدخل, انتهى اليه صوت البواب, عايز حاجه ياباشا, فتمتم بعدة كلمات وتوقف متسمرا عندما أعلمه البواب بأن الساعة الثانية بعد الظهر, وأن الدوام قد انتهى, تمتم هذه المرة متوجسا من البواب, واستدار, نظر في ساعته, قال لنفسه ولكن الساعة التاسعة صباحا فعلا, تساّءل , ما الذي حدث؟ تلفت حوله, رأى الناس فعلا منصرفين الى سياراتهم وعبر الشارع المفتوح امامه, نظر الى السماء ببلاهة, رأى الشمس مائلة تماما الى الغروب, نظر في ساعته مجددا وقال لنفسه مقتنعا ولكن الساعة التاسعة صباحا, وجرجر نفسه عبر الشارع المؤدي الى محطة الباصات, وفي داخله شعور مبهم, فهو لا يدرك حتى اللحظة بأن العالم قد تخطاه تماما وبقي هو في مربعه الأول لم يتزحزح .